إذا كان الوضع الذي ساد في عالم الإسلام لترتيب العلاقة بين العقل والنقل; وأعني بالكيفية التي ظل معها العقل تابعا لسلطة النقل علي نحو شبه كامل, هو ما يؤسس لهذا التصور الغالب عن قصور العقل واحتياجه, فإن أصل هذا الوضع لا يرتد- علي عكس ما يتبادر سريعا للذهن- إلي الإسلام نفسه, بل إنه يجد ما يؤسسه كاملا في قلب الثقافة السابقة عليه, والتي يبدو- وللمفارقة- أن الإسلام قد قصد إلي زحزحة وإزاحة نظامها الكلي, علي الرغم من إدماجه لبعض عناصرها الجزئية في صميم بنائه. فإنه إذا كان التحليل يكشف عن أن من قاموا علي صياغة التيار الغالب في ثقافة الإسلام( الذين يتناسلون في سلالة ممتدة من علماء الأصول الكبار من مثل الشافعي وابن حنبل والأشعري والباقلاني والجويني والغزالي وابن تيمية وغيرهم) قد كرسوا تبعية- تتفاوت حدودها- من العقل للنقل, فإنه يبدو- وللغرابة- أن الترتيب الذي كرسه هؤلاء المؤسسون الكبار للعلاقة بين العقل والنقل, يمثل انحرافا عن ترتيب العلاقة بينهما الذي ينبني عليه فعل الوحي ذاته; وهو الفعل المؤسس للإسلام كدين.

انطلاقاً من آلية التفكير بالأصل، التي تؤسس للعجز العربي الراهن، من خلال تدشينها لنظام العقل التابع، إنما تجد ما يؤسسها في قلب البناء الأصولي لكل من الشافعي والأشعري، فإن هذه القراءة تجادل بأنه لا سبيل للانفلات من عوائق تلك الآلية، وآثارها التي لا تزال تتداعى حتى اليوم, استبداداً وتبعية، إلا عبر الارتداد بما يقوم وراء أصول الرائدين الكبيرين من الشرط المتعالي والمجاوز الذي جرى الإيهام بأنه - وليس سواه - هو ما يقوم وراءها، إلى الشرط الإنساني المتعيّن الذي يكاد - منفرداً - أن يحدد بناءها ويفسره، والذى تتجاوب فيه - على نحو مدهش - كل أبعاد الواقع الإنساني وعناصره، من النفسي والاجتماعي والسياسي والمعرفي. وبقدر ما يؤكد هذا التجاوب على إنسانية الشرط الذي انبثقت في إطاره أصول الرائدين، وبما ارتبط بها من آليات وطرائق في التفكير، فإنه يقطع - بذلك - بإمكان تجاوزها الانفلات من سطوتها.وهنا، يلزم التنويه بأن هذه القراءة لا تسعى إلى إنجاز ما هو أكثر من التاكيد على إمكان هذا الارتداد من "المتعالي" إلى "الإنساني”.

لزم السعي إلى التحرر من سطوة العوالم (القديمة وامتداداتها الحديثة) والتفكير خارج فضائها الآسن، وعلى النحو الذي يفتح الباب حقاً لخطاب الفجر الذي ينبلج الأن. وضمن هذا السياق، فإنه يلزم التنويه بأن هذا التحرر لا يتعلق أبداً برفض أي من الدين أو الحداثة، بقدر ما يتعلق بضرورة تجاوز خطاب "القوة" الذي استبد بهما، إلى خطاب "الحق" الذي جرى تغييبه فيهما. وبقدر ما يؤدي هذا التجاوز إلى بناء دولة الحق التي يرنو إليها الكافة في العالم العربي، فإنه سيسمح أيضاً لكل من الدين والحداثة أن يستعيدا روحيهما الحقة.وفي كلمة أخيرة؛ فإنه الانتقال من الاشتغال بآلية الجمع "التجاوري" الذي يتحدد بحسبها بناء كلٍّ من الواقع والخطاب اللذين يسودان عالم العرب إلى التأسيس المعرفي للمفاهيم التي يتداولها الكافة من الأيديولوجيين السابحين ( على تنوع تياراتهم وأطيافهم) على سطح خطاب راكد، من غير تدقيق وفحص وضبط، بل عبر ضروب فادحة من التعميم والتلفيق التي حالت، وستظل تحول، دون أن تتجاوز مصر، ومعها العرب، واقعاً فرضت عليه إكراهات الأيديولوجيا أن يعيش انقساماً فاجعاً بين جوهره ومظهره؛ وهو الانقسام الذي يسعى العرب، بثوراتهم، إلى تخطيه ورفعه، وغنيٌ عن البيان أن ذلك لن يكون ممكناً إلا بترسيخ خطاب التأسيس.